يُقصَد بـ"مدنيَّة" العصيان أن طبيعة الفعل ذاته سلمياً حضارياً
.. لكنه لا يقتصر على المدنيين دون العسكريين ، أو على فئات أو طبقات دون أخرى ، لأن أهدافه في أي زمان ومكان تحمل أبعاداً
وطنية وسياسية واجتماعية
لمصلحة أي مجتمع بشري .
ووفقاً للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ، فالعصيان المدني هو وسيلة مشروعة ولا يجوز للحكومات قمعه . وهذا ما جعل جمال بن
عمر يصرّح أمام مجلس الأمن الدولي عن وجود عصيان مدني متصاعد في الجنوب يستقطب أعداداً كبيرة من الشعب وتتزايد معه الدعوة إلى
الانفصال .
فعندما تقوم كل فئات الشعب بالعصيان
المدني ، لا تستطيع الحكومة أن تقمع حركة
الشعب كله . ومع هذا فواقع الحال في
الجنوب هو أن
الحراك الثوري الشعبي لا ينتمي إلى
دولة قائمة ولا تعنيه قوانين سلطة صنعاء ، وخاصة أنها لا تحترم
قوانينها والقوانين الدولية ؛ وهذا ما جعلها عبارة عن
عصابة نهب همجية تمارس فساداً سلطوياً .. ويهدف
العصيان المدني بقيادة الحراك الثوري الجنوبي إلى رفض وجودها في الجنوب .
بيد أن المهاتما غاندي الذي قاد العصيان المدني في بلاده الهند
، أشتهر بمقولته : " لو أن الرجل يشعر أنه ليس من الرجولة طاعة القوانين
الجائرة ، فلن يستطيع أي طاغية أن يستعبده
" .. وخاطب بريطانيا كقائدٍ ورمزٍ للعصيان
المدني الهندي في سبيل الحرية والاستقلال قائلاً : "نريد نفس الحرية التي يريد تشرشل
من البريطانيين أن يموتوا في سبيلها" .
ومن نافلة القول ، تتشابه
حركة العصيان الثوري في الجنوب مع
حركة غاندي في هدف نيل الاستقلال سلمياً ، لكنهما تختلفان في أن الهند كانت تستعمرها حكومة
الإمبراطورية التي لم تغيب عنها
الشمس ، بينما الذين غزوا الجنوب هم العصابة
التي لم
يفارقها الظلام . وتتشابه أطماع الغزاة في نهب
خيرات المستعمرات ، إلا أن بريطانيا
جاءت إلى الهند من خلف البحار ، والجنوب غزته عصابة
النهب من البلد الجار .
في عام 1919 أعلن غاندي القطيعة مع
المحتل ودعا إلى العصيان المدني ، فاستقال الموظفون وأضرب
الطلاب وهجر المتقاضون المحاكم ، ودعا إلى
المقاطعة الشاملة للبضائع البريطانية
والمنسوجات القطنية لأن الشركات البريطانية كانت تشتري القطن الهندي
بثمن بخس ثم تبيعه للهنود قماشاً بأثمان باهظة ؛ وشجع العمال على غزل القطن في
أوقات فراغهم لتتعطل مصانع بريطانيا فينتفض العمال ضد ملاك المصانع ، حتى تطورت
الفكرة إلى إحراق الأقمشة البريطانية باعتبارها رمزاً للاستعمار
.
وفي عام 1930 بدأ غاندي بـ"مسيرة الملح" عندما احتكرت الحكومة
البريطانية استخراج وبيع الملح ، فقاد المئات من الهنود في اتجاه البحر مسافة 320 كم سيراً على الأقدام لاستخراج الملح من أجل مقاطعة الحكومة . وبهذا نبَّه غاندي الشعب إلى اقتناص الوقت المناسب للقيام بالعصيان
عند ممارسة المحتل طغيانه ، ليكون عصياناً
شاملاً
ومؤثراً تتردد أصداؤه على أوسع نطاق
محلياً وعالمياً .
وهكذا استمر المهاتما غاندي في
سياسة الـ "لا عنف" بأساليبه المتنوعة مثل المقاطعة والعصيان المدني
والاعتصام والقبول بكثافة الاعتقالات
وعدم الخوف من الموت ؛ لأن الهدف هو إبراز الظلم لتأليب الرأي العام عليه ومحاصرته والقضاء عليه .
لكن غاندي لم يدعو يوماً إلى
قطع الطرقات العامة مثلما يحصل في بعض
مناطق الجنوب ، بل وجَّه الأنظار نحو تعطيل شركات المحتل التي تنهب ثروات بلاده ،
فكانت النتيجة حصول الهند على استقلالها عام 1947 لتصبح كبرى ديمقراطيات العالم .
د. عبيد البري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق