نسمع ونقرأ كثيراً عن التحذيرات الشديدة اللهجة من قبل القيادة
السياسية اليمنية بما فيها الرئيس وقيادات الأحزاب والمحللين السياسيين من أن فشل
الحوار الوطني اليمني سيؤدي إلى توقف العملية السياسية والعودة إلى مربع العنف . وبالرغم
من أنهم جميعاً على يقين بأن العوامل المؤدية إلى الفشل قائمة بالفعل وأن الدفع
بالقوى السياسية إلى الحوار ليس إلا مجازفة خطيرة ، فلم يتجرأ منهم أحد على القول
بأن طريق الخطر ليست قدر لا منه مفر .. بل يلجئون إلى التــأكيد على ضرورة مشاركة
الكل في الحوار كعامل أساسي لإنجاحه .. وكأنهم يريدون بذلك أن يساهم المجتمع اليمني بالكامل في الفشل المتوقع وتحمل نتائج
أخطاء أرتكبها أو سيرتكبها طرف معين في العمل السياسي .
صحيح أن الحوار
هو القيمة الثقافية الاجتماعية للشعوب والأمم التي سبقت غيرها في النهوض
بمجتمعاتها من خلال ممارسة أبناؤها لعملية الحوار في الحياة الاجتماعية والسياسية ،
فاستطاعت بهذه الثقافة تجنب الكثير من
الظواهر القبيحة مثل التسلط والذل والخداع وغيرها من الأمراض الاجتماعية والاضطرابات
السياسية . ولأن الحوار قيمة اجتماعية ، فهو أيضاً مهارة اجتماعية رفيعة لا تأتي
إلا بالتعلم والتجربة والخبرة ، بدءاً بعلاقات الفرد في محيط الأسرة وانتهاءً
بعلاقته بالأمة .. وهذا ما يفـتقر له المواطن اليمني سواءً كان في السلطة أو
خارجها ؛ بل أن اليمن يمتاز بشيوع معظم الأمراض الاجتماعية واستفحالها .
إن القول بأن الحوار الوطني الشامل سيحل كل المشاكل التي
يعاني منها اليمن بما فيها استعادت الدولة المخطوفة ، ليس إلا استخفافا بالعقول
وتضليلا سياسيا لا يخدم مصلحة الشعب اليمني ، لان القضايا السياسية والوطنية
الهامة هي من اختصاص مؤسسات الدولة بالمشاركة الواسعة مع الشعب من خلال تقديم
مشاريع وطنية تخضع للاستفتاء الشعبي والانتخاب ، وليس بحشد أطياف من المجتمع في أي
قاعة للخوض فيها . وعندما تطرح قضايا للحوار الوطني بواسطة القوى السياسية كنوع من
المزاج السياسي ، فلا يمكن النقاش فيها والاتفاق عليها إلا في
ظل دولة ترعى حوار المتحاورين بوقوفها على مسافة واحدة من كل أطراف الحوار بحيث لا
يستطيع طرف الاستقواء بالدولة أو بجزء من
سلطاتها أو مقدراتها . أما التحاور بدون وجود سلطات دولة مؤسسات ، فلا بد إلا أن
يكون أشبه بما يحدث في الغاب ! .
يستطيع المتابع
لتدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية في اليمن خلال الفترة
منذ الانتخابات الرئاسية عام 2006 ملاحظة تكرر الدعوة إلى الحوار – شكلياً – مع كل
أزمة من الأزمات المتتابعة في فــترة ما قبل الثورة الشبابية .. وأن المعارضة
اليمنية قد استغلت فكرة الدعوات إلى الحوار مع السلطة التي كانت مسيطرة على مقاليد
الحكم ، باعتبار أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها المعارضة الضغط على السلطة لتـقديم تنازلات في شكل
التداول السلمي للسلطة .. ويستطيع المتابع ملاحظة أن اشتـداد ذلك الضغط كان سببا
مباشراً في تـفـجير ثــورة شباب التغيير . وببـساطة يمكن الاستنتاج بأن الحوار
بثقافته وقيمه الاجتماعية والسياسية المعروفة ليس له لغة في اليمن إلا تلك التي عبـر
عنها في نهاية المطاف بالعنف المسلح في أحياء صنعاء .. وأن أمام الشعب اليمني
سنوات طويلة ليتـحول فيها الحوار إلى قيمه اجتماعية وسياسية رفـــيعة .
وحيث أن المشهد
السياسي اليمني لا يزال متأثراً بالقوى المالكة للثروة والسلاح التي تتجاذب لإفشال
عملية الهيكلة في الجيش والأمن والقطاع المدني ولإبقاء الجزء الأكبر من الدولة بيد
تلك القوى المتنفذة في النظام - سابقاً وحالياً – رغم أي قرارات رئاسية ، فإن عدم
وجود التوازن العسكري والسياسي يتناقض مع
المبادئ المتعارف عليها لأي حوار إيجابي .. ومن تلك المبادئ ضرورة وجود صدق وتفاؤل
، وواقعية لا تسمح بأي تأويلات ، وكذلك التكافؤ الذي يحافظ على الاحترام بين الأطراف ويحد من استعلاء الطرف القوي على
الأطراف الضعيفة ، بالإضافة إلى ضرورة وجود مساحة مشتركة للأطراف ليبـدأ فيها
النقاش والاتـفاق عليها لاستمرار الحوار قدماً . لكن هذا المشهد يقف على النقيض ،
الأمر الذي قد يوصل الحوار إلى جدل بـيزنطي لتثبت فيه الأطراف القوية تفوقها على الآخرين .
ومن عوامل فشل
الحوار اليمني وجود تعدد واختلاف وتباعد وصعوبة في القضايا المطروحة على الطاولة
أمام أطراف متناقضة مع بعضها ولا تملك ثقافة الحوار ، وبالمقابل نرى التلاعب في نوعية
عناصر التمثيل لأطراف الحوار .. فإذا افترضنا أن ربع المتحاورين يمثلون ثورة الشباب
، فما هي الأرضية التي يشترك بها الثوار مع القوى النافذة في النظام ؟! .. وفي
السياق نفسه ، ألم تتسابق القوى السياسية على من يمثلها في منظمات المجتمع المدني أم
أن كل منظمة تمثل جزء مستقل في الطيف السياسي ؟! .. أليست السلطة ممثلة بالقوى
النافــذة هي التي نسقت مع جنوبــيين للمشاركة في الحوار بحيث يمثلون قضية الجنوب
نيابة عن الحراك والشعب الجنوبي ؟! . إن وضع كهذا سيؤدي إلى حوار تــسلطي استـــعلائي
وإقصائي ، وربما يأخذ صورة "حوار الذل" الذي تتملق فيه أطرف ضعيفة
لأطراف أخرى قوية فينتج عنه فقدان الكرامة الإنسانية .
وأخيرا نستطيع القول
أن الملامح السيئة في الحوار قد وضحت قبل
الولوج فيه . فأطرافه الفاعلة هي أطراف
تمثل النظام سلطة ومعارضة في آن واحد ، وتبذل كل جهودها لإظهار الجانب السلبي لدى
خصومها لتجعل منه حواراً ذو صفة تعجيزية . ومما يؤسف له أن الأطراف النافــــذة
قد وضعت أولوية النقاش لقضية الجنوب التي مثلت أكثر القضايا خلافا وحدة ، ويفــتـقد
فيها الأطراف إلى وجود أرضية مشتركة مع الطرف المعني بـها الغائب عن ذلك النوع من الحوار ، وبالتـالي لا أحد يمكنه اتـخاذ
أي قرار في ذلك الحوار ، الأمر الذي يتــيح للقوى المتــنفــذة العبث بالحوار وبكل القضايا المطروحة ، وربما تأخذ الزمام لحسم
المواقف بالقوة ، بحكم امتلاكها للسلاح
والثروة .
د. عبيد البري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق